أحب قصصه تلك ، والتي سمعت بعضها منه ما يقارب العشرات من المرات ، غير أن في كل مرةٍ ويا للعجب تلتقطها مسامعي كأحدوثة مثيرة ومسلية ، تتسع لها عيناي .. تضحكان ، ويلتوي فمي في إدراكٍ للحظةٍ مشاغبة أشتم قميصها قادمةً عبرأحداث الرواية ، ووصلت إليها قبل أن يلقيها علينا جدِّي .. وهو يضحك .
أناوله فنجان القهوة ، مرسلة نظراتي إليه أشجعه
أن يستمر، إذ تدعوه جدتي للتوقف عن إضجارنا بهذه القصص المعتادة ، أو ربما تلك
التي تحوي أحداثا فيها من مداورة الصبا والشباب مافيها ، وتخشى أن تُمَّس برائتنا
بما شعرت أنه لايلائم الخوض فيه في مجلس ٍعائلي كما تعتقد ..
أشاكسها وأعاجلها بإبتسامة ترضية !
،،
في طفولتي المبكرة ..
أتذكر بكل جلاء الصورة كيف كانت أمي رحمها الله
تجمعني وإخوتي عصر كل يوم جمعة ، كنا نتحلق حولها في نصف دائرة ، نتكيء بوجوهنا
على أيدينا المضمومة ، وأعيننا تضيق مع أفواهنا الفاغرة إنصاتا ، وتلك السكينة
المسكوبة على جنبات اللحظة ..
تروي لنا أقصوصة الكهف وفتيته ، كيف كان الفرار،
إلتقاء الأرواح على درب الله ، الإلتجاء والأمن بعد الخوف وتلك السنين الثلاثمائة من
النوم الطويل ..
تليها اليقظة والرقيم المهدوم ، البلدة والعصر
الجديد ، حادثة الخبز ونقش النقد القديم ، وأخيرا الخبر الذي فشا ، وإنذياع المعجزة
بين أهالي البلدة الموعودة بشهادة أعظم عجائب الدنيا ، أعجوبة (النَوَّامة السبعة)
كما يُسمَّون في المسيحية ، وختاما بسجودهم الأخير وارتقائهم للملكوت الأعلى لتنهي
أمي القصة ، وقلبي يكاد يذوب وَلَهًا وسماويةً وخشوعًا ، في تماهي روحيّ مع هؤلاء
الذين سلكوا ما اعتقدوه حقًّا خالصًا دون أن يركنوا للعز والجاه والنعيم الملموس ،
مضحين بالمبدأ وبالوجدان العارفِ بالله !
مازالت إبتسامة أمي الهادئة وهي تعلن إنتهاء الحكاية
مرسومة بحب في ذاكرتي ، وددت لو يستمر العصر ساعات وساعات حتى لاينقطع صوتها الراوي
بجمال ، وتمنيت بإستحالة أن تتوالد في ذاكرتها عشرات القصص فتسردها بلا توقف ..
لكنه العصر ، جميلٌ وقصير
مثل العمر تماما !
،،
عندما أفكر مليًّا في الأمر ، أجد أن جلَّ حياتنا
مبني على الحكايات ..
التاريخ ، الأساطير، وأخبار البلاد والدنيا ، حتى
القصص الشعبية المروية سواء في نوادي لإجتماع الناس يَقُصُّها عليهم (حكواتي)
مُكرَّس ، أو بشكل أكثر حداثة كما في مقاهي القهوة ولعب النرد في الماضي القريب ، أو
ماحُكيت بين الناس وبعضهم في المساجد أو على دكَّة الحي في القرى والأرياف ..
في كل هذا كانت الحكاية وروايتها حاضرة في حياة الناس ويومياتهم وأحلامهم وذاكرتهم
الشعبية ..
كانت التسلية ، الموعظة ، المعرفة ، والحكمة
المدسوسة بين فصول القصة ونبرات الراوي المتراقصة علوًّا وانخفاضًا ، حماسةً وتثاقلًا
، انفعالًا و حنُوًّا في عاطفةٍ رقيقة ..
لتكون الإستجابة أجمل حيث ينصت الجمع ، ويُرهف
السمع ، يبسط الحواس لتتناغم مع روح من يُحدِّثهم فيتمايل بين التأوه عند مواضع
الألم ، والتكبير عند مطارح الفرح ، بين هتاف الإعجاب و نفض اليدين بأملٍ مقطوع .
أدوِّن هذا كله وأنا أرى الحكاية قد بدأت تفقد صوتها
، أوتارها جافة آخِذةٌ في اليَبَس نحو خرسٍ كئيب ..
لم تعد تُروى الحكايات ، ولم يعد هناك من ينصت
بهدوء ..
لاهثون ، يستعلمون الخبر بإندفاع ، يَنشدون القصة
على عجل ، هكذا .. بلا روح .. دون مزاج ..
دون قدح شاي !
ورغم إنكفائها ، مازلت أهتدي لسبيلها
أتلقفها بلهفة ممن ترقد في خواطرهم ، يُحسِنون
نثرها
أجمعها ، أدسها في أكمام الذاكرة ، لتمكث ماشاء
الله لها المكوث ، علَّها يوما ما وبعد فواتِ بالٍ لا نسيان .. تطرق عقلي .. تُلِح
عليَّ الطرق
فأنشرها في أحضانهم ، لتندس مجددا في ذاكرة أحدهم
..
أو ربما لتستريح عميقا في قلبه !