الجمعة، 17 نوفمبر 2017

على شرف دموعهم

لا أدري سببا على وجه التحديد لهذا الإرتباط المشؤوم بين مزاولي الكتابة والفنون الشبقين و بين الإنتحار .
إنه ترابط يكاد يكون بديهيا ما أن يحل ذكر أحدهما ، ولا أستطيع الحقيقة لوم من يقوده تفكيره لهذا المنحى كونه مبررا بتجارب مختلفة وكثيرة على مدى قرون وسنوات قريبة لأدباء وشعراء ورسامين لامعين عربا وأجانب اختاروا التخلي عن حيواتهم رغبة في الوصول إلى جنة قد لايؤمنون بها كفاية وليحصلوا على السلام الأخير.
 إنه وثاق أشبه باللعنة ، يحترق به (بعض) ممن وهبهم الله ملكة الإبداع والذكاء التعبيري والإختلاف عن سائر الناس ، وكأنهم بذلك يدفعون ثمن هذا الوهج العاطفي والذهني الذي يتوقد في دواخلهم فيجسدوه لوحات وقوافي أو قطعا روائية تسرق من الجمهور شعوره وتعاطفه .
   لكن في الحقيقة -كما كل حقيقة- حتما هناك أسبابا مختلفة قادت هؤلاء لنهايات ميلودرامية كالتي حظيوا بها ولانستطيع برأيي تسمية سبب وحيد ، أو نعلقها بتساهل على شماعة عبقريتهم وتوقدهم الوجداني والإبداعي فقط، والذي حتما له أثره على تناسقهم النفسي وانسجامهم مع محيطهم ومجريات الحياة، لكن كل واحد منهم على اختلاف أعمارهم وجنسهم وبلدانهم وأزمانهم وظروفهم كانت له أسبابا تختلف عن الآخر رتبت له بشكل تصاعدي بلوغه هذه الخاتمة ، وسلوك هذا الدرب الذي زلق به إلى هاوية الموت على يد نفسه ، وإلا مالذي يدفع هؤلاء بمجدهم وألقهم وشهرتهم المترامية لإنهاء كل شيء والمضي نحو الموت بإرادتهم ؟ من أين لهم بالشجاعة كي يهزموا غريزة البقاء ؟ من أين لهم كل هذا اليأس من إصلاح الأمور ؟ 
 ومع ذلك كله أرشح سببا غامضا قد لايفطن لتحديده الكثير،  ليكون السبب الحاضن لكل المسببات الأخرى ويكون هو اختزالها الأمثل ، لأنه في اعتقادي القاصر هو اللاعب الرئيسي في هذه التراجيديا المعقدة .
 إنه التطرف ، نعم التطرف ذاك الساكن أعماقهم الذي يجعل منهم يبالغون في نبذ فكرة او سلوك أو عادة أو تقليد ما ، وهو نفسه الذي يجعلهم مولعين بكل ماسبق أو مناضلين محترقين لصالح فكرة أو مفهوما ما، لايعرفون المنتصف ، إنهم أذكياء بتميز ، سريعو الملاحظة ومدركون بشكل أعمق للإحساسات وخوالج الوجدان بشكل أكبر من الآخرين، يملكون نظرياتهم الخاصة، كل منهم يصنع فلسفته المختلفة التي تخصه عن الحياة والروح والغيب والمصير وغيرهم ، وهذا مايجعلهم عالقين في مشاعر عالية الكثافة معظم فترات حياتهم ، محاصرين بالغضب ربما ، التشوش والفراغ الروحاني ،الحزن الإحباط أو الشعور بالغرابة من التواجد مع الناس أو الحياة ككل وعدم الميل للتكيف ، وهذا بالتأكيد مالايتوافق مع الإتزان الإنفعالي والشعوري الطبيعي ، ينشأ تطرفهم ذاك لظروف النشأة مثلا ، لربما تعرضوا في طفولتهم لمجموعة ظروف أو أحداثا معينة سببت ردة الفعل ذات الطابع الحاد لديهم ، وهذا عامل كبير وخطر في تكوين الشخصية ، أو لسبب جسماني  مثل(ثنائية القطب) وهي حالة صحية مزمنة يجب على صاحبها تعلم التعايش معها مدى العمر حيث تعكس ذكاء المصاب بها ونبوغه اللافت لكنها تسبب إفراطا في الإنفعالات الوجدانية والسلوك وهذا مايجعل صاحبها صعب التعامل حيث يكون تحت وطأة الغضب الشديد أو الفرح المفاجيء الصاخب ، وقد يعاني من الأوقات الصعبة الطبيعية كالحزن والإحباط والخوف أكثر من الشخص العادي حيث يدخل في نوبات دورية من الإكتئاب والرغبة في الإنعزال ، ولو لاحظنا كل ماوصلنا من سير هؤلاء المنتحرين حتما سنجد مايوصلنا لعتبة التطرف، لقد كانوا غاضبين ، عاتبين على الحياة وعلى البشر ، عديمو التقبل لبشرية الناس ونسبية الخير والشر في النفس البشرية وغيبية الأقدار ، متحفزون ضد الأعراف و النسك الإجتماعية أو الدينية أو السياسية ، لأنها برأيهم حطت من شأن حرية الفرد وساهمت في قولبة فكره ورأيه وهذا مايتعارض مع أهم قاعدة إبداعية يرتكزون عليها بلا إتفاق مسبق بينهم سوى إتفاق طرقهم التي جمعها تطرفهم الرابض فيهم ، قاعدة الحرية المطلقة.
أفهم تماما كيف كان الأمر ثقيلا عليهم ، لقد غرقوا في الغربة والشعور بالتعاسة وبالإنفصال عن المجتمع واعتياديته في التفكير والإعتقاد وربما هذا ما زاد عليهم وحدتهم القاتلة ، ولا أنسى ذكر ميلهم للادينية وتبنيهم لعدائية مبطنة ضد فكرة الدين والثواب والعقاب ، ووجود تشريعات عقدت في ملكوت لايستطيعون ببساطة الإيمان به ، ما أوهن حصانتهم النفسية وأعدم لديهم الجانب الروحاني البالغ الأهمية فهو الذي يهب السكينة ويزرع الثبات في القلب والذهن أمام فواجع الأيام وتقلبات السنين . 
إنه حقل شائك ، ولا أدري لما رغبت بالكتابة عنه ، لكنني رغبت في بعثرة حجر النرد ولعبه من جديد ، رغبت حقا بالنفخ على أكوام الغبار عن صندوقهم الأسود لتنجلي الرؤية وأقترب بكم لهذا النفق المظلم ، الغامض والحزين ونحاول سويا أن نلمس شيئا نفهم من خلاله حالة مختلفة عما اعتدنا عليه في حياتنا اليومية وتجربة التماهي مع نفوسا مختلفة ، تخمين ما كانت تفكر به ، وكيف شعرت ، ولما هربت من الأرض إلى سماء لاتؤمن بها !

الجمعة، 3 نوفمبر 2017

درس الخمس عشرة ثانية

أكتب الآن وقد مضت ساعتان على حدوث الهزة الأرضية التي ضربت جنوب المملكة في الرابعة وسبع دقائق من فجر يوم الجمعة ، الساعة تشير للسادسة صباحا وخمس دقائق ورغم الساعتين مازلت أستطيع سماع كل هذه القلوب التي مازالت ترجف رهبة وذهول .

كان أمرا مفاجئا ، مباغتا دون أي مقدمات ، هدير غامر ضرب محيط السمع ودوامة كأنما تدورعموديا تشق الأرض صاعدة إليَّ من تحت سريري الذي كنت مستلقية عليه بتكاسل أفتش في جوالي كالعادة.

 هاهو الضجيج المكتوم يتصاعد، والإحساس بالطفو فوق الأمواج يصبح أوضح وأكثر إرباكا ، لم يأخذ الأمر ثانيتين لأعرف أنها هزة ، نعم هزة أرضية ، أنا التي لم تعرف في حياتها كلها مامعنى أن تهتز الأرض تحتك وتصبح وحيدا على مشارف ماكان سابقا من المستحيل ، كنت أراقب السقف بصمت ، سمحت لذاك الإستسلام الهاديء أن يتلبس جسدي وفكرة واحدة كانت تتسيد ذهني ..
( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) .

انتهت الخمس عشرة ثانية زمن صغير الزلزال هذا ، ليشتعل بعدها تويتر بخبر الهزة ، وتتوافد التغريدات على الوسم تحمل كل مشاعر الخوف ، الذهول ، الصدمة والترقب لهزة أخرى قد تحدث .
لاشك ؛ كل شيء غير عادي ، لكنني مازلت أعانق استسلامي وسكينة قذفها الله في قلبي ، أشعر كما لو أنني أمام إيمان جديد ، كانت هزة لمست باصبعها ناقوسي فدق ، لأشعر بعدها بإيمان مختلف .
أتساءل هل كنت في عميق لا وعيي أرغب بفرصة تنفض عني رتابة الشعور وتضعني على المحك وجها لوجه مع كل تصوراتي السابقة عن "ماذا يمكن أن يحدث لو حصل كذا وكذا" أو "كيف سأشعر لو حدث كذا وكذا" ؟!
هل كنت أحب أن أواجه أسئلة تتشاغب في عقلي ، أن أجرب مايقربني إلى الله ويقربه إلي أكثر ؟!
هل كنت أسعى لإختبار شيء غير اعتيادي ، شيء لايتكرر بسهولة ، شيء يبقى في الذاكرة عمرا كاملا ؟! 
أياكان فأنا قد حصلت على واحدة أعتبرها من أهم ماعشت ، لقد أرسلها الله لي لأعرفني أكثر ، لأشعر بشكل أعمق مما كنت أفعل سابقا ، لقد تمكنت من التلذذ بإيماني فهو الذي نفث فوقي سلاما وشعورا غريزيا يقول لي أنني بخير في كل الأحوال ، تمكنت من حياكة ثوب يقين مختلف يحميني من صقيع الأهواء وتوافه الطبيعة البشرية ، وغير هذا وذاك لقد تمكنت من أن أعرف ماهو أثمن من كل شيء ..

لقد عرفت الله أكثر !